الأربعاء، يوليو 04، 2012

المذهبات





المعلقات السبع

من الشعر الجاهلي قصائد عرفت بين الناس باسم "المعلقات السبع"
وب"المعلقات" وب"المذهبات " وب"السموط"، لزعم الرواة أن العرب اختارتها من بين سائر الشعر الجاهلي، فكتبتها بماء الذهب على القباطي، ثم علقتها على الكعبة 'عجاباً بها وإشادة بذكرها، وقد بقي بعضها إلى يوم الفتح، وذهب ببعضها حريق أصاب الكعبة قبل الإسلام.
والمعلقات السبع سبع قصائد طويلة اختيرت من الشعر الجاهلي، فعرفت لذلك بين الناس ب"السبع" وبالسبع الطوال، وبالسبع الطول، وبالقصائد المختارة، وبالسبعيات، وعرفت أيضاً باختيارات حماد، وبالسمط، وبالمذهبات. ويظهر أن لفظة "السبع"، هي من الألفاظ القديمة التي أطلقت على اختيارات "حماد"، فقد ذكر "محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: أن أبا عبيدة قال: أصحابُ السبع التي تسمى السمط:امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة. قال: وقال المفضل: من زعم أنّ في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء فقد أبطل". ولما تحدث "ابن قتيبة" عن معلقة "عمرو بن كلثوم"، قال: "وهي من جيد شعر العرب القديم، وإحدى السبع". فالسبع، تسمية أخذت من حقيقة ان القصائد المذكورة المختارة كانت سبع قصائد.
وأما تسمية المعلقات ب"السبع الطوال" و "السبع الطوال"، فلكون هذه القصائد السبعة، هي من أطول ما ورد في الشعر الجاهلي من قصائد. ونجد هذه التسمية واردة على لسان "المفضل" حيث نسب إليه قوله: "هؤلاء أصحاب السبع الطوال". وقد أطلقها "ابن كيسان" المتوفى سنة "299 ه" "911"، "320ه" "932"، على شرحه لتلك القصائد حيث سمّاه ب"شرح السبع الطوال الجاهلية"، وأطلق "أبو جعفر أحمد بن محمد" النحّاس "338" هذا العنوان عليها، إذ ذكرها بقوله: "أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"، وأطلقه على شرحه لها.
وعرفت أيضاً ب"القصائد السبع" وب"القصائد السبع الطوال" وب"القصائد". وب"القصائد التسع"، وب"القصائد التسع المشهورة"، وذلك بالنسبة لمن أضاف على القصائد المذكورة قصيدتين أخريين، وب"القصائد العشر"، وذلك بالنسبة لمن أضاف ثلاث قصائد عليها.
ويظهر أن مصطلح "السبع الطوال"، هو أنسب المصطلحات تعبيراً عن هذه القصائد، لأنها تمثل في الواقع أطول ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي. فإن عدد أبيات أقصر قصيدة من قصائدها هو "64" بيتاً، أما عدد أبيات أطول قصيدة منها، فهو "104"، ومعدل أبيات المعلقات "85" بيتاً.
وعرفت هذه القصائد ب"القصائد المختارة" لطبيعة كونها قصائد اختيرت من قصائد الشعر الجاهلي، وانتخبت منه انتخاباً. ونجد مجموعة أخرى عرفت ب"شعر الشعراء الست"، وهم امرؤ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة. وقد أشار "البغدادي" إلى كتاب دعاه: "مختار شعر الشعراء الست: امرؤ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة. وشرحها للأعلم الشمنتري".
ولم نجد في الكتب التي وصلت إلينا، الاسم الصحيح الأول الذي أطلقه جامع هذه القصائد ومختارها عليها. وقد ورد في مقدمة شرح التبريزي "502 ه" على "القصائد العشر": "سألتني - أدام الله توفيقك - أن ألخص لك شرح القصائد السبع، مع القصيدتين اللتين أضافهما إليها أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النخوي -قصيدة النابغة الذبياني الدالية، وقصيدة الأعشى اللامية- وقصيدة عبيد بن الأبرص تمام العشرة". فيظهر منها أن جملة "القصائد السبع"، كانت غالبة على تلك القصائد، من حقيقة كونها سبع قصائد في الأصل.
و لا نعلم اسم أول من أطلق مصطلح "المعلقات السبع" على هذه القصائد، وفي أي وقت أطلقه عليها. و لا يستطيع أحد إثبات أن "حماداً" الراوية هو الذي أطلقه على مقتنياته. وقد ذكر "بلاشير" ان "ابن قتيبة" لما تكلم عن قصيدة "عمرو بن كلثوم" التي تدخل في المعلقات قال عنها أنها "إحدى السبع المعلقات". وقد رجعت إلى النص فوجدته يقول: "وهي من جيد شعر العرب القديم، وإحدى السبع"، ولما كنت لا أملك النسخة الفرنسية لكتاب "بلاشير"، لذلك لا أدري إذا كانت تلك النسخة قد استخدمت جملة "إحدى السبع المعلقات"، كما وردت في الترجمة العربية، أم أن الترجمة العربية هي التي استعملتها تصرفاً، وأنها لم ترد في النص الأصل. واني أستبعد احتمال أخذ "بلاشير" من نسخة أخرى استعملت جملة "إحدى السبع المعلقات" بدلاً من "إحدى السبع" الواردة في النص الذي اعتمدت عليه، المطبوع ببيروت سنة 1964 م.
والعلماء مختلفون في القصائد التي تعّد من المعلقات وفي عددها، ولكنهم متفقون على خمس منها، هي معلقات امرئ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم. أما بقيتها، فمنهم من يعد من بينها معلقة عنتّرة والحارث بن حلزة، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى. وقد اضاف بعض العلماء القصيدتين اللتين اختارهما المفضل الضبي، وهما قصيدتا النابغة والأعشى، إلى المعلقات السبع التي هي من اختيار حماد، فجعلها تسع معلقات. ويرى "نولدكه" إن لولاء حماد لبكر بن وائل علاقة بإدخال حماد قصيدة الحارث بن حلزة اليشكري في جملة المعلقات، وذلك أن حماداً كان مولى لبكر بن وائل، وكانت هذه القبيلة في عداء مع تغلب، ولما كانت قصيدة "عمرو بن كلثوم" التغلبي قد لقيت شهرة واسعة، لم يسع حماد أن يعدل عن اختيارها، فاختارها، واختار معها قصيدة الحارث إرضاء لمن انتمى إليهم بالولاء، مع قلة شهرتها بالنسبة إلى القصائد الأخرى.
ونجد في "الفهرست" اسم كتاب ذكر "ابن النديم" انه من مؤلفات "الأصمعي"، دعاه "كتاب القصائد الست". ولهذه التسميى أهمية كبيرة، لأنها تدل على أن "الأصمعي"، كان قد اختار من القصائد المعروفة ست قصائد، وضمها بين دفتي كتاب. ولم يشر "ابن النديم" إلى أسماء القصائد الست المختارة، ولكني لا أستبعد احتمال إسقاطه قصيدة واحدة من بين القصائد السبع التي اختارها "حماد"، فصار العدد ست قصائد. كما أشار "البغدادي" إلى كتاب دعاه: "مختار شعر الشعراء الست: امرئ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة"، والى شرحها للأعلم الشمنتري.
وأشار "السيوطي" أثناء حديثه في مقدمة لكتابه: "شرح شواهد المغني" إلى "شرح المعلقات السبع"، وما ضم إليها للتبريزي ولأبي جعفر النحاس، وشرح السبع العاليات للكميت، وشرح القصائد المختارة للتبريزي". وتلفت جملة:"شرح السبع العاليات للكميت " النظر، لأنها جاءت في أثناء تحدثه على المعلقات السبع وما ضمّ إليها للتبريزي ولأبي جعفر النحاس، مما يدل على أنه قصد بشرح السبع العاليات للكميت، قصائد سبعاً مختارة لها صلة بهذه المعلقات المختارة للتبريزي، التي هي المعلقات العشر، وأنه لم يقصد بالقصائد السبع "الهاشميات"، "هاشميات" الكميت وهي أيضاً سبع قصائد، من شعر هذا الشاعر، عرفت بالهاشميات. ولو كان قصدها بالذات لدعاها باسمها الذي عرفت به، وهو "الهاشميات"، وإنما قصد كتاباً آخر، اسمه: "شرح السبع العليات"، ولفظة "العاليات" نعت للقصائد السبع. ولم يتحدث السيوطي ويا للأسف عن هذا الشرح بأي شيء، فهل يكون الكميت المتوفي سنة "126ه"، أي قبل "حمّاد"، قد اختار سبع قصائد جاهلية وضمها في ديوان عرف ب"السبع العاليات " وقف عليها "حماد" أو صارت إليه، فأملاها فنسبت إليه، على عادة القدماء في ذلك الوقت، من أخذهم الكتب والروايات القديمة، ثم إملاءها على تلامذتهم، فتنسب إليهم، فتكون المعلقات إذن من جمع الكميت، رواية حماد ! ويفهم من خبر مذكور في "خزانة الأدب" أن الخليفة "عبد الملك بن مروان" أمر فطرح شعر أربعة من أصحاب المعلقات، وأثبت مكانهم أربعة. ومعنى هذا الخبر هو وجود المعلقات قبل أيام عبد الملك. وفي الكتاب خبر آخر هو أن بعض أمراء بني أمية أمر من أختار له سبعة أشعار، فسماها المعلقات، وفي رواية أخرى: المعلقات الثواني. ولم يعين المورد الشخص الذي أمر باختيار تلك الأشعار، ولا الشخص الذي قام بالاختيار. ولعله قصد الوليد وحماداً، فإليهما يتصرف الذهن، لما للوليد من ولع بالشعر، ولما لحمّاد من علم به.
ولم يشر "البغدادي" صاحب "خزانة الأدب" إلى اسم المورد الذي استقى منه خبره عن طرح "عبد الملك" شعر أربعة من أصحاب المعلقات، وإثباته أربعة مكانهم. كما أنه لم يشر إلى أسماء أصحاب المعلقات الذين طرحت معلقاتهم، و لا إلى أسماء الشعراء الأربعة الذين أثبتت قصائدهم مكان القصائد الأربع المطروحة. وروي أن "معاوية"، تذكر قصيدة "عمرو بن كلثوم"، وقصيدة "الحارث ابن حلزة" فقال " قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب، كانتا معلقتين بالكعبة دهراً".
والمعروف اليوم، أن حماداً الراوية، هو الذي جمع القصائد السبع المذكورة، وأذاعها بين الناس. وهو من حفظة الشعر ورواته وممن اشتهروا وعرفوا برواية الشعر القديم. وكان من المتكسبين بالشعر. وقد اتهم بالوضع وبالدس على الجاهليين وبالكذب عليهم: وهو نفس لم ينكر ذلك، ولم يبرئ نفسه من الدس على الجاهليين والوضع عليهم. ولكنه كان بإجماع أنصاره وخصومه من أفرس الناس بالشعر، ومن أعلمهم بالشعر الجاهلي وبطرقه ودروبه وأساليبه، ولعل علمه هذا بالشعر، ورغبته في التفوق والتصدر على أقرانه المتعيشين مثله على رواية الشعر، كانا في رأس الأسباب التي حملته على الوضع والدس والافتعال.
ووضع "المفضل" الضبي قصيدتي النابغة والأعشى مكان قصيدتي عنترة والحارث بن حلزة اليشكري في الاختيارات الشهيرة للمعلقات. وضم "أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل" النحوي قصيدتي النابغة والأعشى على اختيارات "حماد" فصار العدد تسع معلقات، أضاف عليها بعض العلماء قصيدة "عبيد الأبرص" فصارت عشراً، وقد شرحها "التبريزي". وجعل بعضهم العدد ثمانية. ولكن المشهور المعروف بين علماء الشعر الجاهلي أنها سبع قصائد: وهي في رأيهم أفضل ما قيل من الشعر في زمان الجاهلية.
ولأهل الأخبار قصص وحكايات عن سبب تسمية المعلقات بالمعلقات. فذكر "أحمد بن عبد ره" مثلاً أن العرب كلفت بقصائد خاصة من الشعر الجاهلي فضلتها على غيرها، وعمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها في أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، ويقال لها المعلقات. وورد: يقال مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره. وقال "ابن رشيق": "وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجدت قصيدة الشاعر يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته".
وذهب "السيوطي" هذا المذهب كذلك، إذ قال: "وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك إنها اختيرت من سائر الشعر، فكتبت في القباطيّ بماء الذهب، وعلّقت على الكعبة، فلذلك يقال: مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه لتكون في خزانته". وهو رأي أخذه من "ابن رشيق"، من كتابه "العمدة". وكتاب العمدة من الموارد التي استقى منها "السيوطي"، يشير إليه أحياناً، و لا يشير إليه أحياناً أخرى، كما هو الحال في هذه الجمل، التي هي عبارة "ابن رشيق" بحروفها كما جاء في العمدة. وقد توفي "ابن رشيق" سنة "456 ه".
وزعم بعض آخر أن العرب كانوا في جاهليتهم يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يعبأ به و لا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه روي، وكان فخراً لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش". وذهب "ابن خلدون" إلى أن العرب كانوا يعلقون أشعارهم بأركان البيت كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وإنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر. وذكر أن "أول من علق شعره في الكعبة امرؤ القيس وبعده علقت الشعراء، وعدد من علق شعره سبعة. ثانيهم طرفة بن العبد. وثالثهم زهير بن أبي سلمى، رابعهم لبيد بن ربيعة، خامسهم عنترة، سادسهم الحارث بن حلزة، سابعهم عمرو بن كلثوم. هذا هو المشهور". وروي عن "معاوية" قوله: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة من مفاخر العرب كانتا بالكعبة دهراً".
وعن "ابن الكلبي" انه قال: "أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس علق على ركنٍ من أركان أيام الموسم حتى نظر إليه، ثم أحٌدِرَ فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخراً للعرب في الجاهلية، وعدّوا من علق شعره سبعة نفر، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة".
و لا بد وأن يكون ظهور قصة التعليق قد حدث قبل أيام "ابن عبد ربه" المتوفي سنة "328 ه" لورودها في "العقد الفريد". "وابن عبد ربه" من معاصري "أبي جعفر أحمد بن محمد" النحاس، المتوفي بعده بعشر سنوات، أي سنة "338ه"، الذي ذكر القصة أيضاً، لكنه أنكر تعليق المعلقات، فعنده "أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة". وذكر أنه قال في شرحه على المعلقات ما نصه: "واختلفوا في جمع القصائد السبع، وقيل إن العرب كانوا يجتمعون بعكاظ فيتناشدون الأشعار، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوا لتا هذه وأثبتوها في خزانتي"، وقال أبو جعفر: "وأما قول من قال إنها علقت بالكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة"، " وهو يستند في رأيه هذا، إلى أن حماداً الراوية لما رأى زهد الناس في الشعر، جمع لهم هذه القصائد السبع، وقال هذه هي المشهورات ! فسميت القصائد المشهورة".
وقد مشت أسطورة التعليق هذه بين الناس، حتى صارت رأياً اعتقد به كثير من المحدثين، إلى درجة أن منهم من صار يغضب ويثور إذا قرأ رأياً يخالف هذا الرأي، لاعتقاده أن في هذا الإنكار غضاً وتعريفاً بأخلد تراث من تراث العرب القديم، وأن فيه انتقاصاً من قدر الأدب العربي التليد.
وقد تعرض المستشرقون منذ أيام "بوكوك" لموضوع المعلقات، وقد رأى كثير منهم إن قصة التعليق قصة مصطنعة وان الموضوع مصنوع. ويرى "نولدكه" ان اختلاف رواة الشعر في ضبط أبيات تلك المعلقات، دليل في حد ذاته على عدم صحة التعليق، إذ لو كانت تلك القصائد معلقة ومشهورة وكانت مكتوبة لما وقع علماء الشعر في هذا الاختلاف. ثم يرى سبباً آخر يجمله على الشك في صحة ما يقال عن المعلقات. هو إن كل الذين كتبوا عن فتح مكة مثل الأزرقي وابن هشام والسهيلي وغيرهم وغيرهم، أشاروا إلى أن الرسول أمر بطمس الصور وكسر الأوثان والأصنام، ولم يشيروا أبداً إلى المعلقات، ولو كانت المعلقات موجودة كلاً أو بعضاً لما غض أهل الأخبار أنظارهم عنها، ولما سكتوا عن ذكرها، لأهميتها عند العرب.
ثم يرى "نولدكه" اه هذه القصائد لو كانت معلقة حقاً، وكانت على الشهرة التي يذكرها أهل الأخبار لما أغفل أمرها في القرآن الكريم وفي كتب الحديث وفي كتب الأدب مثل الأغاني وأمثاله، ولأشير إليها، ولهذا يرى إن ما يروى عن المعلقات هو من القصص الذي نشأ عن التسمية وعن اختيارات حماد لها، فلما أشاعها بين الناس، أوجد الرواة لها قصة التعليق.
وقد استدل "نولدكه" من عبارة: "وقال المفضل: القول عندنا ما قاله أبو عبيدة في ترتيب طبقاتهم: وهو أن أول طبقاتهم أصحاب السبع معلقات. وهم: امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد. قال المفضل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب بالسموط "ومن زعم غير ذلك، فقد خالف جمهور العلماء"، على أن الأدباء أوجدوا قصة تعليق المعلقات في الكعبة، نظراً إلى ما يقال من تفاخر الشعراء بعكاظ، وتحكيم المحكمين فيما بينهم، فرأى رواة الشعر أن يجعلوا المختار من الشعر، وهو القصائد السبع الطوال سيد الشعر الجاهلي، ولما كانت مكة ذات قدسية، وجدوا أنها أصلح مكان لأن يربط بينه وبين هذا المختار من عيون الشعر، فأوجدوا حكاية التعليق.
وبين المستشرقين فريق ذهبوا مذهب "نولدكه" في رفض قصة التعليق، ورأوا أن القصة أسطورة لا أصل لها ولا فصل. وفريق أيد التعليق، وهم أقلية، وذهب مذهب المثبتين له من علماء الشعر الجاهلي. أما علماء العربية في أيامنا، فهم أيضاً بين مؤيد وبين مخالف، ولكل رأي.
وقد تعرض "الرافعي" لموضوع تعليق المعلقات، فذهب إلى أن قصة التعليق على الكعبة قصة مفتعلة، وأن "ابن الكلبي" هو الذي ذكر تعليقها على الكعبة، وأن مَنٌ عدا ابن الكلبي ممن هم أوثق في رواية الشعر وأخباره لم يذكروا من ذلك شيئاً، بل جملة كلامهم ترمي إلى أن القصائد لم تخرج عن سبيل ما يختار من الشعر، وأن المتأخرين هم الذين بنوا على خبر التعليق ما ذكروه من أمر الكتابة بالذهب أو بمائه في الحرير أو في القباطي ؛ وأن العرب بقيت تسجد لها "150" سنة حتى ظهر الإسلام، تسجد لها كما يسجدون لأصنامهم. "وابن الكلبي" على رأيه "هو أول من افترى خبر كتابة القصائد السبع المعلقات وتعليقها على الكعبة".
وتعرض "الرافعي" أيضاً إلى رأي من ينكر أن هذه القصائد صحيحة النسبة إلى قائليها، مرجحاً أنها منحولة وضعها مثل حمّاد الراوية، أو خلف الأحمر، فرأى أنه رأي فائل، لأن الروايات قد تواردت على نسبتها، وتجد أشياء منها في الصدر الأول، غير أنه مما لاشك فيه أن تلك القصائد لا تخلو من الزيادة وتعارض الألسنة، قل ذلك أو أكثر، أما أن تكون بجملتها مولدة فدون هذا البناء نقض التأريخ.
ولم أجد بين الموارد التي وصلت إلينا من موارد مطبوعة أو مخطوطة مورداً واحداً ذكر أن الرسول حينما فتح مكة، وأمر بتحطيم ما كان بها من أصنام وأوثان وبطمس ما كان بها من صور، وجد معلقة واحدة أو جزءاً من معلقة أو أي شعر آخر وجد مكتوباً ومعلقاً على أركان الكعبة أو على أستارها، كما إني لم أجد في أخبار بناء الكعبة خبراً يشير إلى أنهم علقوا المعلقات على الكعبة حينما أشادوها وبنوها من جديد. ولو كانت تلك القصائد قد علقت، لما سكت الرواة عنها وأغفلوا أمرها إغفالا تاماً. ثم إن أهل الأخبار الذين أشاروا إلى الحريق الذي أصاب الكعبة، والذي أدى إلى إعادة بنائها، لم يشيروا أبداً إلى احتراق المعلقات كلها أو جزء منها في هذا الحريق، ولو كانت موجودة ومعلقة على الكعبة كما زعموا، لما سكتوا عن ذكر هذا الحدث الهام. ثم إني لم أسمع أن أحداً من حملة الشعر الجاهلي من الصحابة أو التابعين، ولا غيرهم من رواة شعر الجاهلية وحفظته، وكلهم كانوا يتلذذون بروايته وبسماعه، أشار إلى وجود معلقات ومذهبات وقصائد سبع مختارة، ولو كان لهم علم بها لما أخفوا ذلك عمن جاء بعدهم أبداً. وتعليق المعلقات قصة، لاأستبعد أن تكون من صنع "حماد" جامعها، أو من عمل من جاء بعده، في تعليل سبب ذلك الاختيار.
وأما ما زعم من أن معاوية قال: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة، كانت معلقتين بالكعبة دهراً"، فخبر لا يوثق به.
ومن "السمط" جاءت فكرة تعليق المعلقات. فالسمط: خيط النظم لأنه يعلق، وقيل قلادة أطول من المخنقة، والخيط ما دام فيه الخرز، وجمعه "سموط". فالسمط يعلق، وقد دعيت القصائد المذكورة ب"السمط"، وقالوا من ثم بتعليق تلك القصائد، وتعليقها على الكعبة أو على استارها هو خير مكان يناسب المقام الذي وضعوه لتلك المنظومات.
وتلفت جملة: "وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء، فقد أبطل" النظر حقاً. فقد استعمل لفظة "السمط"، فقط، وقصد بها المعلقات، وهذا الاستعمال يدل على نعت العلماء للقصائد المذكورة بأن كل قصيدة منها وكأنها خيط من الؤلؤ منظوم يتلو بعضه بعضاً، وأن تلك القصائد السبع قد اختيرت من بين قصائد الشعر الجاهلي، وأن من يزيد على ذلك العدد قصيدة، فقد أخطأ.
وقد روي أن العرب كانت تسمي القصائد الطويلة الجيدة المقلدات والمسمطات. و "مقلدات الشعر وقلائده البواقي على الدهر". "وسمط الشيء تسميطاً علقه بالسموط، وهي السيور"، ومن هذا المعنى أخذ اختراع تعليق المعلقات في رأي بعض الباحثين.
ويذكر علماء اللغة والشعر أن "المسمط" من الشعر، أبيات تجمعها قافية واحدة مخالفة لقوافي الأبيات. ويقال قصيدة مسمطة، شبهت أبياتها المقفاة بالسموط. وذكر بعضهم: الشعر المسمط الذي يكون في صدر البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة وتجمعها قافية مخالفة لازمة القصيدة حتى تنقضي. وهو الذي يقال له عند المولدين: المخمس، والمسبع، والمثمن. وذكر بعض علماء الشعر ان لامرئ القيس قصيدتان سميطتان.
وأرى ان الذي أوحى إلى أهل الأخبار بفكرة المعلقات السبع هو ما جاء في القرآن الكريم: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم )، وما جاء في الحديث من قوله: "أوتيت السبع الطوال". وقد ذكر علماء التفسير أن "السبع الطول" من سور القرآن: سبع سور، وهي سورة البقرة وسورة آل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، واختلف في السابعة، فمنهم من قال السابعة الأنفال، ومنهم من جعل السابعة يونس، ومنهم من قال إنها سورة "الفاتحة" وإنها "السبع المثاني، لأنها تتألف من سبع آيات. فمن السبع المثاني التي قصد بها السور السبع الطوال المذكورة، والتي ذكر المفسرون إنها خصت بهذه التسمية بسبب كونها أطول السور ولاحتوائها على أكثر الأحكام أخذ رواة الشعر في رأيي فكرتهم في المعلقات السبع، التي نعتوها أيضاً ب"الطوال" وب"السبع الطوال" وهو نعت جاء في الحديث وفي كتب التفسير للسبع المثاني، أي للسور المذكورة، إذ عبّر عنها ب"السبع الطوال"، وورد في الحديث: "أوتيت السبع الطوال".
ويلاحظ أن علماء الشعر مغرمون بعدد السبعة، وأن نظام انتقائهم للأشعار قائم على سبع. فالمعلقات سبع، ومنتقيات العرب والمذهبات التي للأوس والخزرج خاصة سبع كذلك، وعيون المراثي سبع، ومشوبات العرب وهي التي شابهن الكفر والإسلام سبع كذلك، والملحمات سبع أيضاً. ومجموع هذه الاختيارات تسع وأربعون. وهي حاصل هذه المجموعات السبع التي تتألف كل مجموعة منها من سبعة أشعار.
وهذا التقسيم السبعي لا بد أن يكون له أساس، فليس من المعقول أن يكون اعتباطياً وعلى غير أساس. والمعروف أن التقسيم ألسبعي، أو النظام ألسبعي، تقسيم قديم يعود إلى سنين طويلة قبل الميلاد، فالسماوات والأرضون سبع، والكواكب السيارة سبعة، والأنغام الموسيقية سبعة، وأيام الأسبوع سبعة. والعدد سبعة هو عدد مقدس عند بعض الشعوب القديمة.
وقد سبق لي أن تحدثت في مجلة المجمع العلمي العراقي عن المعلقات السبع، وذكرت الأسباب التي حملت العلماء على تسميتها بالمعلقات.
     

                          

منقول للمنفعة بواسطة
 ارتريوس

(منتديات الصايرة)





ليست هناك تعليقات: